منذ سنوات لم يعد أبو محمد الجولاني؛ قائد «جبهة النصرة» ثم «جبهة فتح الشام» وأخيراً «هيئة تحرير الشام»؛ رجلاً «مجهولَ النسب» كما يقول بعض خصومه. فقد اتّضحَ أن اسمه أحمد، وأنه ينتمي إلى عائلة جولانية نزحت إلى دمشق بعد حرب 1967. وتبيَّنَ أن والده هو الخبير الاقتصادي في مجال النفط، حسين الشرع.

ومنذ أن عُرفَ ذلك ثارَ شيء من الاستغراب لعدم تَحدُّره من بيئة جهادية، بل من أسرة محافظة من الطبقة الوسطى العصرية. وعلى وجه الخصوص ظهرت المفارقة بين توجهات والده، القومية العربية بملمح يساري، وبين الخيار الذي اتخذه ابنه الأصغر منذ أن تطوَّعَ للقتال في العراق في عام 2003. وقد رأى البعض في ذلك تمثيلاً نموذجياً لفشل القومية التقدمية العربية وصعود الإسلام السياسي فالجهادي.

لم تنجلِ صورة حسين الشرع بشكل كاف، نتيجة ابتعاده النسبي عن الحياة العامة، حتى عاد إلى التأليف الغزير منذ سنوات. وخلافاً لكتبه السابقة، التي كانت شبه تقنية، طرح الباحث المتقاعد، الذي أصبح خارج بلده، أفكاره السياسية، وخاصة في كتاب أسماه قراءة في القيامة السورية. وفيه يتضح مدى التباعد بينه وبين خط ابنه الشهير قائد ما يسميه «الكيان السنّي» في إدلب. إذ يرى الأب أن حل المسألة السورية، بعد الانتقال السياسي، يكون ببناء دولة مدنية ديمقراطية تعددية على أساس المواطنة بلا تمييز في العرق أو الدين أو المذهب، عبر وضع دستور جديد للبلاد يضمن استقلالها، والسيادة المطلقة للشعب، واحترام الحريات والرأي الآخر، والتعددية السياسية، وحرية عمل الأحزاب، وخضوع المؤسسات للقوانين، وإبعاد الجيش وقوات الأمن عن السياسة بعد تقديم المجرمين منهم لمحاكم عادلة.

وبالتوازي مع العودة إلى التأليف كتب حسين الشرع هذا النص، غير المنشور سابقاً، للتعريف بأصله ونفسه وتكوينه. والذي اقتصر عملي فيه على إضافة بعض علامات الترقيم، وأحرف وكلمات ثانوية سقطت سهواً، وحواشٍ للتوضيح أو لضبط عناوين بعض الكتب التي وقع فيها شيء من الخطأ نتيجة اعتماد المؤلف على ذاكرته.

كتب حسين الشرع هذا النص بصيغة الغائب على عادة الكتب التي ظهرت خلال شبابه، والتي كانت ترى أنّ الكتابة بصيغة المتحدث قد توحي ببعضٍ من التبجح ربما. وزّعَ الشرع هذا النص على حلقة من المعارف والأصدقاء، دون أن يجد طريقه ليكون على غلاف أحد كتبه، وهو ما يوحي أسلوب النص أنه كان الهدف من وراء كتابته؛ التعريف بالكاتب الثمانيني الذي انتقل ليسجل ذاكرة منطقته عن ثورات الجنوب في العشرين، أو رأيه في ما وقع لبلده منذ الاستقلال وحتى يومنا هذا.

ربما يساعدنا هذا النص، على قصره، في امتلاك بعض الأدوات التي تساهم في فك شيفرة شخصية الجولاني الذي تربى ابناً لكاتبه حسين الشرع:

والد الجولاني حسين الشرع في ندوة الثلاثاء الاقتصادية بالعاصمة دمشق عام 1992.

الدكتور1حسين علي الشرع

ولد في عام 1944 في مدينة فيق2حوران عاصمة الزويّة3جنوب سوريا لعائلة عريقة مشهورة بالعلم ينحدرون من سلالات تتصل بآل بيت النبوة، لهم حظوة عند جميع أبناء المنطقة، ولهم أهمية خاصة في الوجاهة وحل الخلافات، وعند السلطة في القائم مقام، والمحافظة، في زمن الانتداب الفرنسي، وفي زمن السلطنة العثمانية، ولهم علاقات ونسب مع معظم العائلات في منطقة حوران، والأردن، وفلسطين، ودمشق.

والده علي الشرع4كان من ملّاك الأراضي الكبيرة. فأهله كانوا مالكين لحوالي 85% من أراضي فيق، نحو 600 دونم أراضي زراعية، وجده لأبيه5كان يملك نحو 2000 دونم، وكان هناك 2000 دونم وزعها طالب الشرع6على العاملين (80 شخصاً). وكانوا لا يفرّقون بين العاملين وهم أصحاب الملك والملك لله.. والده عمل بالتجارة، أما جده وعمومه فقد كانوا من المناضلين ضد الاستعمار الفرنسي في ثورة الزويّة المنسية عام 1920-1927.

درس في طفولته في الكتّاب عن الشيخ وتعلم العمليات الحسابية. ودرس الابتدائية والإعدادية وحتى الثالث ثانوي في ثانوية فيق.

في 17 نيسان 19637بدأ الصراع يحتدم بين الشعب الذي آمن بعودة الوحدة وبين السلطات الجديدة التي كرست الانفصال واستأثرت بالسلطة. وكان الطلاب في المدارس والجامعة وفي جميع أنحاء سوريا هم القوى المحركة، إذ لا رصيد للحزب والسلطة الجديدة بين أوساطهم عملياً.

كان حسين الشرع، وآخرين من أقرانه، قد بدأوا يشكلون قوة للمظاهرات في منطقتهم المحكومة بالقوانين العسكرية. فالمظاهرات لا تتوقف في أي مناسبة، في عيد الشجرة، في ذكرى وعد بلفور في 2 تشرين الثاني، في ذكرى قرار تقسيم فلسطين في 29 تشرين الثاني، في أي لحظة، وفي أي يوم لا بد من مظاهرات ضد النظام الانفصالي الجديد ورموزه. ليس وراءهم حزب أو تنظيم، ولكنها مظاهرات عفوية، والسلطة كانت تطاردهم بالجيش الذي يطلق الرصاص الحي.

وذات مرة بينما كانوا يطاردون حسين الشرع ورفاقه في حارات مدينة (فيق)، وكانوا يطلقون الرصاص، فأصابوا فتاة وقتلوها -وكانوا يقصدون حسين الشرع- الذي دخل إلى غرفة بابها مغلق، ففتح الباب بقوة وأغلقه، فوجد امرأة مستلقية، فصاحت به، فطلب إليها السكوت حتى يمر؛ لأنهم يريدون قتله، وفعلت هذه المرأة ما طلب منها. وفي خلال دقائق انطلق حسين الشرع إلى غابة زيتون جنوب (فيق) بسرعة فائقة، فالتقى بزملائه الذين كانوا قد ظنوا أنهم ربما قتلوه، فحمداً لله على السلامة. ولما حل الظلام انطلق إلى مدينته، وفي اليوم التالي تم تعطيل الدراسة لثلاثة أيام حداداً على مقتل تلك الفتاة.

بعد ثلاثة أيام عاد طلاب الثانوية وكانوا نحو 600 طالب ثانوي وإعدادي، ومدير المدرسة يستشيط غضباً على حسين الشرع وزملائه: فيصل، وفوزي، وعلي، وأمجد وآخرين من قادة المدرسة.

ففي الاجتماع الصباحي بدأ خطبة تهجمية خاصة، في معظمها التنبيه على حسين الشرع وزملائه، متوعداً بالويل والثبور وعظائم الأمور، فتصدى له حسين الشرع، وخرج من بين الصفوف خطيباً يرد على هذا المدير البعثي، وطلب من زملائه تعطيل الدراسة أيضاً لثلاثة أيام رداً على ما بدر من مدير الثانوية. وفعلاً نفّذ الطلاب جميعهم ما طلب منهم عدا عشرة طلاب كانوا يخافون جداً من الاعتقال، وليس لهم قابلية بذلك.

في المساء تم اعتقال حسين الشرع، واعتقال قادة الثانوية من الطلاب، وزج بهم في الثكنات العسكرية في بلوكوس تحت الأرض تمهيداً لنقلهم لسجن المزة الشهير في دمشق.

لكن أهالي المنطقة وعشائرها والوجهاء تحركوا وتدخلوا لدى السلطات العسكرية: قائد اللواء، وقائد الاستطلاع والمخابرات، وغيرهم.. فتم إطلاق سراحهم بعد أربعة أيام، متوعديهم بالأشد والأقسى إن عادوا للتظاهر، لكن هؤلاء القادة الطلابيين أصبحوا أعلاماً ومناراً، الافتخار بهم في المجالس والمضافات في كل أنحاء المنطقة، حتى من قبل بعض ضباط الجيش، وتم الإيعاز للقادة البعثيين في المنطقة باستيعابهم ومحاورتهم وإدخالهم للحزب لكنه رفض.

ونظراً للظروف السياسية اضطر لمغادرة البلاد إلى الأردن، وكان توجهه نحو القاهرة. لكن الخلافات بين الأردن وعبد الناصر في بداية الستينات لم يوافقوا بعد أن قضى في السجن عندهم قرابة شهرين ونصف وكانت المعاملة كريمة. فخيّروه بين السفر للسعودية أو للعراق فاختار العراق حيث كان عبد السلام عارف8هو الرئيس، فتم استقباله والترحيب به. وأكمل دراسته الثانوية في الإعدادية المركزية، وهي من أحسن المدارس، ونجح فتقدم للجامعة. وكان يفضّل دراسة الهندسة وبسبب الظروف هناك انتقل لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة بغداد وتخرج في السنة الدراسية 1969.

عاد لسوريا فسُجن فيها لفترة ثم خرج. ولم يتم قبوله في وظائف الدولة فعمل مدرساً للغة الإنكليزية في درعا لسنة واحدة، ثم توظف في الشركة العامة للنفط وأصبح مديراً للشؤون الاقتصادية ومستشاراً في وزارة النفط. وأنجز مجموعة من الدراسات عن قطاع النفط في سوريا، وثقف الكثيرين من موظفي الدولة بقطاع النفط، وقد زاره الكثير ممن يدرسون في الخارج من طلاب الماجستير والدكتوراه. وفي تلك الفترة ترشح لعضوية مجلس محافظة القنيطرة9ونجح10. وفي العام التالي 1973 ترشح لمجلس الشعب ولم يُوفق لأنه غير حزبي بعثي.

بقي في قطاع النفط السوري حتى العام 1979، ثم تعاقد مع وزارة البترول السعودية بوظيفة باحث اقتصادي. وقبل أن يذهب للسعودية أنجز كتابين؛ الأول عن «النفط بين الإمبريالية والتنمية» ونشر في لبنان في عام 197411، وأتبعه بكتاب ثان عن «البترول والمال العربي في معركة التحرير والتنمية»12. وفي السعودية، بالإضافة لوظيفة الباحث الاقتصادي، أصبح يكتب مقالات سياسية واقتصادية واستراتيجية في جريدة «الرياض» من 1980 إلى 1986، ثم انتقل للكتابة في جريدة «الجزيرة» حتى استقال من عمله عام 198813. وقد ألّفَ مجموعة من الكتب المهمة منها «النفط ومستقبل التنمية في الوطن العربي»14و«النفط ومستقبل التنمية في المملكة العربية السعودية»15، ونشرت هذين الكتابين دار العلوم16في 1983 و1983. ثم كتاب ثالث17عن دار الثقافة والفنون السعودية18وعنوانه «الاقتصاد السعودي في مرحلة بناء التجهيزات الأساسية دراسة الخطط الخمسية من 1960 إلى 1985»19.

20